ثَابِتُ بن الدَحْداح، وقيل: ابن الدحداحة بن نعيم بن غنم بن إياس، من حُلفاء بني عمرو بن عوف، وكنيته أَبُو الدَّحْدَاحِ الأنْصَاري
نبذة عن حياته وشخصيته
لقد اشتهرت المدينة المنورة من قبل عصـر النبوة وبعده بِبَساتينها ذات الشجر والنَّخيل، جميلةِ الأغصان، وارفةِ الظِّلال، عَذبةِ ماء العيون. وكان عامَّة أهلها الأبرار يعملون في الزراعة، ومَن يمتلك منهم حائطًا فهو من الأغنياء فيهم. ولقد عُرِفَ أنصارُ هذه البلدة بواسع العطاء، فلقد تجاوزوا حدود الكرم والجود إلى إيثارٍ بلا حدود، حتى مدحهم الله -تعالى- في ذلك قائلًا: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة الحشر: ٩]. ومن بين هذه الأجواء الطيِّبة، ومن هاتيكَ البقعةِ الطاهرة، خرج نجم قصَّتنا ليرسم للدنيا صورةً حيَّةً تُشـرق من خلالها شمسُ البذلِ السَّمْح، والعطاءِ الفياض. 🔹أسلم أَبُو الدَّحْدَاحِ -رضي الله عنه- قبل مَقدم النبيِّ ﷺ المدينة، وكان صاحب نخلٍ وزروع ذات أفنان، وكان له بستان تحيطه الأسوار، به سِتُّمِائَةِ نَخْلَةٍ، وتجري تحت ظلاله قنوات الماء العذب، وكان هذا الحائط أحبَّ أمواله إليه، وكان كثيرًا ما يجلس فيه مع أسرته، يأكلون من لذيذ ثماره، ويستظِلُّون بظلاله، ويشربون من ماء فيه طيب. وكان -رضي الله عنه- قد حَباه الله عقلًا واعيًا، وفهمًا راقيًا، وخُلقًا نبيلًا، فلم يَرُقْ له فعلُ يهود يثرب مع المرأة أيام حيضها، فقد كانوا إِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ مِنْهُمْ لَمْ يُؤَاكِلُوهَا وَلَمْ يُشَارِبُوهَا، وَأَخْرَجُوهَا مِنْ الْبَيْتِ. انظر ما رواه مسلم (٣٠٢) والترمذي (٢٩٧٧) عن أنس بن مالك-رضي الله عنه-. وكاد بعضُ العرب من أهل يثرب أن يسلكوا طريقتهم، فاستنكر أَبُو الدَّحْدَاحِ وطائفةٌ من الأنصار ذلك، حتى هاجر النبيُّ ﷺ إليهم، فرآه أَبُو الدَّحْدَاحِ قد جاء بدين يُكَرِّمُ المرأة ويرفع قدرها، فانطلق إلى رسول الله ﷺ يسأله عن حُكم ذلك الفعل المُشين، فأنزل الله لهم جواب ذلك من السماء في قوله -تعالى-: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [سورة البقرة: ٢٢٢]، فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ الله ﷺ أَنْ يُؤاكِلُوهُنَّ، وَأَنْ يُشَارِبُوهُنَّ، وَأَنْ يَكُنَّ مَعَهُمْ فِي الْبُيُوتِ، وَأَنْ يَفْعَلُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا النِّكَاحَ. انظر ما رواه مسلم (٣٠٢) والترمذي (٢٩٧٧) والنسائي (٢٨٨).
تفاعله مع آيات القرآن
لما نزل قوله -تعالى-:{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} ، لَقِيَ عند أبي الدحداح قلبًا واعيًا، وعقلًا مُتدبِّرًا، وفهمًا عميقًا لِحقيقة الدنيا والآخرة، فأخذت الآية تتردَّد في نفسه حتى استحوذت على كلِّ تفكيره، فترك كلَّ شيءٍ وانطلق يشتدُّ نحو رسول الله ﷺ بروحٍ متفاعلةٍ مع القرآن العظيم؛ ليسأل عن هذه الآية، فصادف مجيئُه رجلَين جاءَا يختصمان عند رسول الله ﷺ، فقال أحدهما: (يَا رَسُولَ الله إِنَّ لِفُلانٍ نَخْلَةً وَأَنَا أُقِيمُ حَائِطِي بِهَا فَمُرْهُ يُعْطِينِي [النخلة] أُقِيمُ بِهَا حَائِطِي، فَقَالَ رَسُولُ الله ﷺ له: «أَعْطِهِ إِيَّاهَا بِنَخْلَةٍ فِي الْجَنَّةِ»، فَأَبَى). وعندَئِذٍ تدخَّل أبو الدحداح الذي كَبُرَ عليه أن يُرَدَّ طلبُ النبيِّ ﷺ، وقد وجد أمامه الفرصة سانحة لِيُلبِّي نداء الله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا}، فقال -رضي الله عنه-: (يَا رَسُولَ الله، إِنَّ الله يُرِيدُ مِنَّا الْقَرْضَ؟، قَالَ: «نَعَمْ يَا أَبَا الدَّحْدَاحِ»، فقَالَ: أَرِني يَدَكَ يا رسول الله، فَنَاوَلَهُ ﷺ يَدَهُ، فقَالَ أبو الدحداح -رضي الله عنه-: قَدْ أَقْرَضْتُ رَبِّي حَائِطِي، وَحائِطُهُ فِيهِ سِتُّمِائَةِ نَخْلَةٍ). ثم ذهب إلى الرجل الذي آثرَ نخلةً في الدنيا على نعيم الجنة، فقال له: (بِعْنِي نَخْلَتَكَ بِحَائِطِي، فَفَعَلَ، فَأَتَى أَبُو الدَّحْدَاحِ -رضي الله عنه- النَّبِيَّ ﷺ، فَقالَ: يَا رَسُول الله إِنِّي ابتعت النَّخْلَة بحائطي فاجْعلها لَهُ، فقَالَ النَّبِيُّ ﷺ مِرارًا: كَمْ مِنْ عَذْقٍ رَدَاحٍ فِي الْجَنَّةِ لِأَبِي الدَّحْدَاحِ)، والعَذْقُ الرَدَاح هي النخلة العظيمة المليئة بالثمار. فقد باع أبو الدحداح -رضي الله عنه- بستانه في الدنيا الفانية ببستانٍ خيرٍ منه في جنات النعيم. ثم ذهب أبو الدحداح -رضي الله عنه- يَمْشـِي حَتَّى أَتَى الْحَائِطَ وَأُمُّ الدَّحْدَاحِ فِيه وَعِيَالُهَا، فَنَادَى: يَا أُمَّ الدَّحْدَاحِ، قَالَتْ: لَبَّيْكَ، فَقَالَ: اخْرُجِي فَقَدْ أَقْرَضْتُهُ رَبِّي، فَإِنِّي بِعْتُهُ بِنَخْلَةٍ فِي الْجَنَّةِ، فَقَالَتْ: قَدْ رَبِحَ الْبَيْعُ أَبَا الدَّحْدَاحِ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ عَلَى صِبْيَانِهَا تُخْرِجُ مَا فِي أَفْوَاهِهِمْ وَتُنَفِّضُ مَا فِي أَكْمَامِهِمْ، ثم خرجوا منه جميعًا -رضي الله عنهم. وذكر القرطبيُّ في تفسيره (3/238) وغيره أنَّ أبا الدحداح أنشأ يقول لزوجته: هَـــدَاكِ رَبِّي سُبُلَ الرَّشَادِ إِلَى سَبِيلِ الْخَيْرِ وَالسَّـدَادِ بِينِي مِنَ الْحَائِــــطِ بِالْوِدَادِ فَقَدْ مَضَى قَرْضًا إِلَى التَّنَـادِ أَقْرَضْـــتُهُ اللَّهَ عَلَى اعْتِمَادِي بِالطَّوْعِ لَا مَنٍّ وَلَا ارْتِدَادٍ إِلَّا رَجَاءَ الضِّــعْفِ فِي الْمَعَادِ فَارْتَحِلِي بِالنَّفْسِ وَالْأَوْلَادِ وَالْبِرُّ لَا شَــــكَّ فَخَيْرُ زَادِ قَدَّمَــهُ الْمَرْءُ إِلَى الْمَعَـــادِ فأجابته قائلة: بَشَّرَكَ اللهُ بِخَيْرٍ وَفَــــــرَحْ مِثْلُكَ أَدَّى مَا لَــــدَيْهِ وَنَصَحْ قَدْ مَتَّعَ اللهُ عِيَالِي وَمَنَــــحْ بِالْعَجْوَةِ السَّوْدَاءِ وَالزَّهْوِ الْبَلَحْ وَالْعَبْدُ يَسْعَى وَلَهُ مَا قَدْ كَدَحْ طُولَ الليــالي وعليه ما اجْتَرَح
🔹يَومٌ في حَياةِ أَبِي الدَّحْدَاح
رُوِيَ أنَّ أبا الدحداح -رضي الله عنه- أصبح يومًا صائمًا، فلمَّا كادت الشمسُ أنْ تغرب طلب من أمِّ الدحداح أن تجهز له فطُوره، وقبل أن تقوم من مقامها جاء مسكينٌ يطرق بابَهم، ويقول: عَشُّوني بما عندكم، فإني لم أَطعم اليومَ شيئًا، فقال أبو الدحداح لها: قومي فاثرُدي رغيفًا وصُبِّي عليه مَرَقةً وأطعميه، ففعلتْ ذلك، فما لَبِثوا أنْ جاءت جاريةٌ يتيمةٌ، فقالت: أطعموني فإني ضعيفةٌ لم أَطعَمْ اليوم شيئًا، فقال -رضي الله عنه-: يا أمَّ الدحداح قومي فاثرُدي رغيفًا وأطعميها، فإنَّ هذه واللهِ أحقُّ من ذلك المسكين، ففعلتْ وأطعمَتْها، فبينما هم كذلك إذ جاء على الباب سائلٌ أَسيرٌ ينادي: عَشُّوا الغريب في بلادكم، فإني أسيرٌ في أيديكم، وقد أجهدني الجوع، فبالذي أعزَّكم وأذلَّني لمَا أطعمتموني، فقال أبو الدحداح: يا أمَّ الدحداح قومي فاثرُدي رغيفًا وأطعمي الغريب الأسير، فإنَّ هذا أحقُّ من أولئك، ففعلتْ وأطعمَتْه، ثم بحث أبو الدحداح في بيته عن فطور له، وقيل: إنَّ صنيع أبي الدحداح وزوجته في ذلك اليوم ممَّا أنزل الله فيه قوله -تعالى-: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} انظر تفسير مقاتل بن
🔹شَجَاعتُه يومَ أُحُد
وفي يوم أحُد دارت الدائرة على المسلمين لمَّا ترك الرماة مواقعهم، وأوقع المشركون فيهم قتلًا، وأصيب النبيُّ ﷺ بجراحات شديدة، وأُشيع أنه قُتل، فخارت معنويات كثير من جيش المسلمين، وهَمَّ البعضُ بالعودة إلى المدينة، وهنا بَرَزَ دَور البطل المجاهد أَبُو الدَّحْدَاحِ الأنْصَاري، الذي يَظهر في الوقت المناسب دائمًا، فجعل يصيح -رضي الله عنه-: يا معشر الأنصار، إليَّ إليَّ، أنا ثابتُ بنُ الدحْداح، إنْ كانَ مُحَمَّد ﷺ قُتِل فإنَّ اللهَ حيٌ لا يَمُوت، فقاتِلوا عن دينكم، فإنَّ الله مُظْهِرُكُم وناصرُكم. فنهض إليه نفر من الأنصار، فجعل يَحْمِلُ بمَن معه من المسلمين على المشركين، فصمدوا لكتيبة من أشرس فرسانهم كانت تقتل في المسلمين قتلًا، حتى صدُّوهم عنهم بعدما جُرح أبو الدحداح ومَن معه جراحات منكرة، أَوْدَتْ بحياتهم جميعًا على أرض أُحُد، إلَّا أبا الدحداح -رضي الله عنه- فقد وجدوه بعد المعركة في دمائه يلتقط أنفاسَه، فحُمِلَ إلى بيته جريحًا.
🔹وحان وقت الرحيل
وبعد فترةٍ عاشها أبو الدحداح -رضي الله عنه- صابرًا محتسبًا وهو يعاني من آلام ما وقع به من طعنات وضربات يوم أحد انتفضت به هذه الجروحُ الغائرةُ لِتُلحقَه بركب الشهداء، وليرى وعد الله الذي ينتظره في جنات النعيم. وقد صلَّى النبيُّ ﷺ على أبي الدحداح -رضي الله عنه-، ثم خرج مع الناس في جنازته التي ضمَّت جمعًا غفيرًا من المهاجرين والأنصار، فجلس النبيُّ ﷺ عند قبره حتى دُفن، ثم قام فركب فرسه والناس من حوله، فَتَذكَّرَ ﷺ مناقبَ أبي الدحداح وصنيعَه يوم تصــدَّق ببستانه، فتحركت شفتاه الشريفتان بكلمات تخلَّلَتْ مسامع مَنْ حوله، فقال ﷺ: «كَمْ مِنْ عِذْقٍ مُدَلًّى لِأَبِي الدَّحْدَاحِ فِي الْجَنَّةِ». رواه مسلم (٩٦٥). وارضَ اللَّهمَّ عن أبي الدَّحْـدَاحِ الأنْصَــاري وعن الصحابة أجمعين .
إقرأ أيضاً :