أحدث الدراسات في علم النفس
تُشير الدراسات الأخيرة في حقل علم النفس الأخلاقي، إلى مفهوم (الرخصة الأخلاقية Moral License) هذا المنزلق المظلم الذي يؤكّد قدرة الإنسان اللانهائية على تبرير نفسه على الدوام، حتى لو كان مدخله تحقيق الفضيلة، فبعض الطُرُق المودية إلى جهنّم مُعبّدة بالنوايا الحسنة.
يُشير مفهوم (الرخصة الأخلاقية) إلى أنّ الفرد يقوم بتجاوزات أخلاقية في الحاضر، بناءً على اعترافه لنفسه بأنّ لديه ماضي جيد من الأفعال الأخلاقية أو الرصيد الأخلاقي الذي لن يجعل من ارتكابه لهذه الهفوة الأخلاقية شيئًا يُذكَر.
ما تطبيقات هذه الظاهرة؟
أولئك الذين يتطوّعون لفترة طويلة مجانًا في جمعية خيرية مثلًا، يُبيحون لأنفسهم لاحقًا بأخذ بعض الأدوات المكتبية من الجمعية إلى منزلهم، بدون استئذان أيّ أحد، لأنّهم -بحسب ما يعتقدون- قد قدّموا العديد من الجهود الطيّبة مجانًا، وهذا الرصيد الأخلاقي لن يُلغيه سرقة بعض القرطاسية التي لا تكاد تُذكر.
هذا (الرصيد الأخلاقي) ليس حصرًا على المُحافظين أو المُتديّنين، ولا علاقة له بهم، فمثلًا في سياق ليبرالي، وبحسب ما تُشير الدراسات، الأشخاص الذين يصرّحون على الدوام لمن حولهم بأنّهم ضد سياسات التمييز الجنسي ومع المساواة بين الرجل والمرأة، هم أكثر (من جهة إحصائية) مَن يقوم بتعيين الذكور في وظائف تحتمل الجنسين، لأنّهم يعتقدون أنّه لا يمكن لأحد أن يلومهم، لأنّهم يملكون رصيدًا أخلاقيًا جيدًا من النضال للمطالبة بالمساواة بين الجنسين وبحقوق المرأة، فلن يُضيره القيام الانحياز لتعيين الذكور بوصفهم الأكفأ ولن يقدر أحد على اتّهامهم بهذا.
هذا يُذكّر بطبيعة الحال بـ لويس سي كيه وهو المؤيّد المعروف في الوسط الليبرالي النسوي، ليواجه لاحقًا اتّهامات بالتحرّش والاعتداء الجنسي على بعض النساء، ولعلّ الأكثر شهرة في هذا السياق هارفي واينستين الذي تبرّع بالملايين لدعم الدراسات النسوية، والذي وجّهت إليه اتّهامات لاحقًا بالاغتصاب والاعتداء الجنسي.
وتنسحب تطبيقات الرخصة الأخلاقية على الحياة اليومية والسلوك اليومي، فمن يستخدم سخّان مائي موفّر للطاقة، غالبًا ما يزيد من مدّة الاستحمام (وهو ما يزيد من استهلاك الماء بطبيعة الحال).
أولئك الذين يعتقدون بأنّهم (فُضلاء) ويعتقدون في قرارة أنفسهم بأنّهم قد قدّموا في ماضيهم كثيرًا من السلوكيات الحسنة، أكثر ميلًا (من جهة إحصائية) على ارتكاب التجاوزات الأخلاقية في المُستقبل.
يجب التنويه هنا، إلى أنّ مفهوم (الرخصة الأخلاقية) يكمن في (اعتراف) الفرد بالفضل لنفسه وفي اعتقاده العميق بأنّه صاحب فضيلة، ولا تكمن المشكلة في (فعل الأفعال الحسنة)
توجيه البوصلة في الاتجاه الصحيح :
لا يعني هذا أنّنا لا يجب أن نُناضل تجاه القضايا الأخلاقية، على الإطلاق، لكنّه يعني أن لا نعترف لأنفسنا بأنّنا أصحاب الفضل في نصرة القضايا، وأن نتواضع بين الحين والآخر، لأنّ إدراكنا لأنفسنا بأنّنا أصحاب فضل، يجعلنا نشعر باستحقاق استثنائي، يُغرينا في المُستقبل لكي نبرّر تصرّفنا بوصفه استثناء عن باقي البشر الذين لم يقدّموا أي رصيد أخلاقي كم فعلت أنا بطبيعة الحال، ولهذا فأنا يحقّ لي ما لا يحقّ لغيري.
وما يعنيه هذا في سياق ديني، هو ضرورة التديّن المصحوب بالتزكية وعلم القلوب، لتجريد النفس بين الحين والآخر، ولتجريد الإنسان من نسبة الفضل إلى نفسه، وهذه الفكرة مركّبة في علوم التزكية، تصل إلى حد الحمد والشكر على نعمة التوفيق للحمد والشكر، حتّى التوبة وهي الفعل الأكثر ذاتية بالاعتراف الذاتي، يجرّدها القرآن (ثم تاب عليهم.. ليتوبوا) بنسبة الفضل إلى الله، ولعلّ الأوفى في هذا حديث الرسول – صلى الله عليه وسلم -: (لن يُدخِلَ أحد منكم عَمَلُه الجنّة. قالوا: ولا أنتَ يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلّا أن يتغمدني الله منه بفضل ورحمة).
ويستحضرني في هذا، قول ابن عطاء في حِكَمه:
ولأن تصحب جاهلًا لا يرضى عن نفسه، خيرٌ لكَ.. مِن أن تصحب عالمًا يرضى عن نفسه .
إقرأ أيضاً :