بقلم الكاتب محمد زعل السلوم ـــ ألوان نيوز
رسالة أسمهان لزعماء حوران :
كلفت بريطانيا الأميرة والمطربة الكبيرة آمال الأطرش الملقبة أسمهان بإرسال رسالة عاجلة لزعماء جبل حوران وزعماء سوريا بعد التدخل خلال زحف القوات البريطانية وفرنسا الديغولية إلى دمشق، وبالفعل وصلت لدمشق عبر قطار حيفا القنيطرة وزارت جبل حوران في السويداء واجتمعت بزعماء البدو والشام في فندق الشرق بدمشق وتم الاتفاق على حياد السوريين، وعندما تناهت أخبار تحركاتها للفيشيين الموالين لألمانيا النازية وقرار إعدامها كجاسوسة للإنكليز عام 1941 وخلال الحرب العالمية الثانية تتحدث أسمهان في حديثها للصحفي المصري الشهير التابعي كيف أنقذها الأمير فاعور وعن لسانها وذات الحادثة ذكرها أخيها الأمير فؤاد الأطرش لتقول :
جاءني الأمير فاعور، وهو أحد أمراء البادية، يحذرني ويقول لي إن السلطات الفرنسيـة توشك أن تصدر أمرأ بإلقاء القبض علي واعتقالي، وأنه يجب علي أن أهرب وأغادر سوريا على الفور. وقد تطوع الأمير فاعور نفسه بتهريبي من سوريا، ومرافقتي بنفسه إلى حدود فلسطين. وتنكرت في زي عبد من عبيده، وطليت وجهي ويدي بدهان أسود، ولبست ملابس العبيد، الذين يعملون في خدمة أمـراء الـعـرب، ثم لففت شعر رأسي بالكـوفـيـة والعقال وركبت جواداً، وسرت وراء جواد الأمير فاعور!
وكـانت رحلة شاقة وطويلة ومتعبة. فقد اضطر الأمير فاعور، أن يسلك في بعض أجزاء الطريق، طرقاً ودروباً غير مألوفة، وليست معروفة لدى حرس الحدود. ولم أنس مهمتي الأساسية، فاجتهدت أن أسجل في ذاكرتي كل ما تقع عليه عيناي من تجمعات للجنـد، وأوكـار الـمـدافـع، وجسور أو قناطر أنشئت هنا وهناك بين الجبال، والحصـون الصغيرة ومخازن الذخيرة، وعندما عبرت الحدود أخيراً إلى فلسطين، كنت أحس بأن وسطي قد “انقطم”، بعد أن أمضيت على ظهر الجواد ليلة كاملة وبعض يوم، ثم ودعت الأمير فاعور وشكرته .
وفي اليـوم التالي كنت في القدس، ودخلت فنـدق الملك داود وطلبت من الخـدم أن يقودوني إلى الجناح الذي كنت أقيم فيه. وبعد أن اغتسلت، وأبدلت ثيابي، أرسلت في طلب المستـر بـاص، ورويت له كل ما فعلته في سوريا، وما لاحظتـه طول الطريق وقصـة هربي. ولقد سر الرجل جداً بما سمعه، وضمني الى صدره، وهو يقول “مرحى صنعاً يا بنيتي” .
تفاصيل الحكاية :
كانت مهمة أسمهان تتركز حول المحور والانكليـز وصـراعهم على سوريا ولبنان. ففي الوقت الذي انطلقت فيه أسمهان تلتقي بزعمـاء الـدروز ورؤسـاء قـبـائـل البـادية، وتغريهم بمساعدة الانكليزي لطرد حـكـومـة فيشي وأسيـادهـا الالمان من سوريا ولبنان، وكانت الوعود بالإستقلال السوري في حال عدم التدخل، بالمقابل انصرف الأمير حسن الأطرش الى معاونة اسمهان في مهمتها العسيرة. وأرسلت أسمهـان تقريراً بالنتيجة التي توصلت اليها. وكان تجاوب الانكليز معها سريعاً جداً. فما كادت تعـود من جولتهـا في الجبل، إلى فندق الشرق في دمشق، حتى وجدت احد الضباط من أعوانها ينتظرها هناك، يحمل لها خرطوشة السكاير، ويقدمها لها أمام الأصدقاء بطريقة لا تثير أي نوع من الشك أو الريبة. ولم تكن سلطـات المحـور في سوريا ولبنان ومصر وفلسطين نائمة اوغافلة، فقد تحقق لهـا أن أسمهـان جاسوسة للإنكليز، وأن عقاب الجاسوسة هو المـوت المحقق. كانت أسمهـان تجلس إلى الأميـر فـاعور الفاعور، رئيس قبيلة الفضل، التي تسكن منطقـة تمتـد من القنيطرة إلى الحـولة، حيث تشتبك سوريا وحدودها مع حدود وجبال فلسطين. وعلى حين غرة أقبل رجل على أسمهان دلت قسمات وجهـه على القلق الشـديـد، فأدى التحيـة لها، وقال لها بصوتٍ بالغ التأثر : “هل تسمحين لي بدقيقة واحدة يا اميرة؟”، استأذنت أسمهـان من الأمير فاعور وانتحت بالرجل ناحية فقال لها هذا على الفور ومن دون مقدمات “يؤسفني أن أقول لكِ أن قوات المحور قد أصدرت عليك الحكم بالإعدام رميـاً بـالـرصـاص”، وإذ نظرت إليـه نـظـرة تكذيب قال مؤكداً ولقد اجتمعت عنـدهم أشياء كثيـرة تـبـرهـن بـأنـك تعملين لحساب أعدائهم. ولقد صدر الحكم منذ ساعـة، قال به ضابط من بيروت ولسـوف ينفـذ الحكم حالمـا يـصـل الضابط الى دمشق!!
نظرت أسمهان إلى الرجل نظرة استعطاف لكي ينصحها بماذا تفعل، وكيف تهرب! وسألتـه للتأكـد من موقفـه “هل أنت من أعواني؟” فرد عليها باقتضاب “وإلا فلماذا أحذرك؟” وأرادت بسؤال لبق أن تعرف مدى مساعدته لها في هذا المأزق فقـالـت : “وهـل عنـدك تعليمات لخطـة الهـروب؟” فـأجـاب : “استعملي أيـة خـطـة للهروب، ولا تضيعي الوقت يا سيدتي”، ثم استدار وغادرها منصرفاً.
وإذ حكت للأميـر فـاعـور ما سمعته، فقد تعهد بنجدتها وتهريبها وحين جن الليـل، وهـدأ الكـون، جاءهـا بـدهـان أسود وقال لها إطلي وجهك بهذا الطلاء، وأدركت هدفه، فقالت : “إذن فأنا منذ الآن رجل”، فضحك وقال “أنتِ رجُلي، ومعذرة إذا طلبت إليـكِ أن تسيـري خلفي”، وتصـدى لهمـا جنـود، بعـد أن ارتدت ملابس رجل، وجلست إلى جانبه في سيارة فأوقفوها، حيث أخرج الأمير هويته فعرفوه، ولم يأبهـوا بالعبـد الأسـود الـجـالس إلى جانبه. وفي منطقـة خالية من الجنود مكتظة بالأشجار، توقفت السيارة فهبـط منهـا الأمير فاعور وأسمهان، ثم أطلق صفيراً خافتاً، فانبعث صفير من قلب الأشجار يجاوبه، فقال لها : “جاء رجالي فلا خوف علينا!”.
الأمير فاعور قبيلة الفضل :
برز من بين الأشجار رجلان يقودان جوادین سلماهما إلى فاعور وأسمهان ثم استقلا السيـارة وعـادا بهـا إلى دمشق. بدأت الرحلة المضنية المحفوفة بالمخاطر وسـط الليـل البهيم. حدث ذلك في شهر حزيران ١٩٤١.
كان النسيم رقيقاً، وهو السلوى الوحيدة في رحلة كل ما فيها يرعش القلب ويرجف الفرائص. وفجأة صاح أحـد الـجنـود من أحـد المواقع ومن هناك؟ فأجاب الأمير فاعور بشجاعة وتبجح : “أنا الأمير فاعور من عشيرة الفضل”، وقدم هويته إلى الجنود فقرأوها، ثم أشار إلى العبد الأسود وقال : “وهذا رجلي !!”.
وكـان الجـوادان واني الخطى من شدة الإرهاق والنَّصَبْ. أما أسمهان فقد أحست بأن عودهـا قد تصلب، ولكنهـا قاومت الألم. وحين انبثق الفجر في الساعة الـرابـعـة بـعـد منتصف الليل كانا قد قطعا مسيرة عشر ساعات كاملة على الجوادين، وقد بلغـا منطقـة ينتظـرهـمـا فيها جوادان آخران، فأبدلا بهما جواديهما المرهقين، ولكي يبدد الأمير فاعور مخاوف أسمهان، بادرها على الفور يقول : “بعد دقائق تبلغين حدود فلسطين، وهنا تنتهي حدود أرضنا، وليس لنا من سلطان على ما يمتد وراءها!” .
مضت أسمهـان، بعـد أن توقف الأميـر فـاعـور عـنـد حدود أرضه، قُدُماً وفي طريقهـا سمعت جلبـة وصهيل خيول، فإذا ببعض الأعراب يقبلون في قافلة صغيرة من وراء أحـد التـلال، ألقـوا إليهـا بالتحية، فغلظت صوتها وردت عليهم تحيتهم، وأدارت وجههـا حين لمحت بينهم أحـد الـدروز الـذي عرفتـه من قيافته، وواصلت المسيـر فـاعـتـرضـهـا مـوقـع أو موقعان ثم أقبلت على منطقة أسلاك شائكة، فإذا بأحد الجنود يهتف بالانكليزية «قف . . لا تتقدم ! »
تنفست الصعداء الآن، لقد أدركت أنها الآن في حدود فلسطين، وأن الخطر قد زال عنهـا. وحين أقبـل الـجنـدي عليها أخرج العبد الأسود من طيات ثيابه أوراق إثبات الهوية، فنظر الجندي إليه مندهشاً، وإذ ذاك قالت أسمهان للجندي “خذني إلى الجنرال «ايفتس» لأن لدي الكثير مما أريد أن أرويه له”. وحين سألها الجندي عما اضطرها إلى ذلك أجابت «حكموا علي بالإعدام لأنني مع قومي الدروز نناصر الحلفاء ! .”
أخذها الجندي إلى خيمة فاستراحا وشربت وأكلت طعاماً محفوظاً في علبة، وقررت أن تتـوجه على الفور إلى تل ابيب لتلتقي بالجنرال، «ايفتس» وكان الجندي قد أبلغ الجنرال باللاسلكي عن مَقدَم أسمهان، فأمر على الفور بحجز جناح خاص لها في فندق داود، وحين استقلت السيارة للذهاب إلى تل أبيب غلبها النوم فنامت، ولم تفق إلا عند باب فندق الملك داود!
أقبل الضباط الذين استبطأوا نزولها إليهم، فأبدوا اهتماماً واضحاً بها. جاءوا لـهـا بـأحـد الأطبـاء الـذي أعطـاهـا عدة أدوية، وتحلقوا حول سريرها يسألونها عما حدث، فروت لهم الأحـداث بكل دقة، غير أن أولئك الضبـاط غـابـوا عنها يوماً کاملاً، فساورها الشك في ذلك، فسألت واحداً منهم عن الخبر، فجاءها الجواب في صفة سؤال “وهل انت بصحة جيدة؟” فقفزت من فراشها وهي ترد «أجل إنني في صحـة جـيـدة، ورد عليهـا مـحـدثـهـا يقـول «استعـدي غداً لنزهة قصيرة، فسألت في فضول «إلی أین؟» فقال لها «غداً تعرفين!»
وفي الغد عرفت. فقد بدأ زحف الحلفاء على سوريا ولبنان في صميم الليل. وعند الفجر تحركت بضع سيارات تحمل المدنيين العاملين في القوات المسلحة، وكـانت أسمهـان في إحـدى هذه السيارات، حيث اجتازت سيارتها حدود فلسطين الى سوريا-اجتاح الحلفاء سوريا في أواخر الأسبوع الثاني من شهر حزيران 1941، وقبل أن يهاجم هتلر الاتحاد السوفياتي في الثاني والعشرين من ذلك الشهر ذاته-
واختارت أسمهان دمشق مقراً لها بدلاً من السويداء. بعد اجتياح الحلفاء والسيطرة على دمشق عبر القنيطرة.
المراجع :
عن كتاب أسمهان والمخابرات البريطانية للكاتب سسليم طه التكريتي، منشورات دار العصور-بغداد، 1988.
وكتاب أسمهان تروي قصتها- تأليف محمد التابعي 1961.
ومذكرات فؤاد الأطرش نشرت في خمس عشرة حلقة في أهداد مجلة “المصور” الصادرة في آذار ونيسان وأيار وحزيران سنة 1960.
وجريدة “الشهباء الدمشقية” عدد 16 تموز 1944
إقرأ أيضاً :