بقلم الدكتور سعد النزيلي – ألوان نيوز
هناك مفهوم خاطئ، تأصّل في أذهان الكثيرين، دون تميز في السياسة الشرعية في هذا الجانب، وصاروا كلما يجدون حدثاً يتداولونه ويقولون: المؤمن يفرح بنصر الكتابي على المجوسي! ويستدل على ذلك بقول الله تعالى { غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم: 2 – 5] وينزل الآية على كل حدث.
▪️وهنا عندنا ثلاث وقفات:
▪️الوقفة الأولى:
نقول: إن آية “غلبت الروم”، تتحدث عن حرب وقعت بين فارس والروم، وكان الروم نصارى أهل كتاب، وفارس مجوس مشركين يعبدون النار، ولا شك أن الكتابي أقرب إلى الإسلام من المشرك؛ ولأجل ذلك فرح المؤمنون.
لكن يوم أن فرح المؤمنون بذلك، كانت الحروب بين فارس والروم، ولم يتعدّى أحد منهم على الدولة الإسلامية، فكانت النظرة السياسة الشرعية؛ هي الفرح بهزيمة من هو أبعد عن الإسلام، فالقريب من الإسلام، أو من تتفق معه على بعض القواسم، يسهل التناول معه في قضية الإسلام، بخلاف من لا يتفق معك على أي قواسم مشتركة.
وقد روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: (لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس فأعجب ذلك المؤمنين فنزلت:” الم. غلبت الروم).
وغزوة بدر وقعت في السنة الثانية من الهجرة، وأول اعتدى وقع على المسلمين من الروم هو في غزوة مؤته في السنة الثامنة من الهجرة، وكان سببها؛ هو الاعتداء على رسولِ رسول الله-صلى الله عليه وسلم- الحارث بن عمير الأزدي.
أمّا روسيا وأوكرانيا؛ فقد حدث منهما اعتداء على المسلمين ودولهم، وكل اعتدى حسب قوته وقدرته ومكانته، فكما أنه وقع اعتداء من روسيا على أفغانستان والشيشان، كذلك وقع اعتداء من أوكرانيا على العراق عام 2003 وشاركت رغبة منها، وقتل ما يقدر بنحو 151,000 إلى 600,000 عراقي أو أكثر في 3–4 سنوات الأولى، فكلاهما معتد، قد تختلف نسبة اعتداء هذا عن ذاك، أو العكس، نعم، ولكن كلاهما اعتدى على حسب قدرته، وعليه فلا يصّح تنزيل الآية على واقع روسيا وأوكرانيا؛ ففارس والروم لم يعتدوا وقتها على المسلمين، أمّا روسيا وأوكرانيا كلاهما اعتدى على المسلمين.
▪️الوقفة الثانية:
روسيا وأوكرانيا، كلاهما بنات ملة واحدة، فالنظام المتبع عندهم هو النظام العلماني، والديانة التي يعتنقونها هي الأرثذوكسية، فهم مشتركون في نظام الدولة، وفي الديانة، فمن أين للمستدلين بالآية، بأن هؤلاء كفارس وأولئك كالروم؟!
نعم البعض قد يستدّل بروح الآية، وذلك بالنظر إلى من هم أشدّ ضررا فيشبههم بفارس، وهم روسيا، ومن هم أخف ضرراً فيشبهم بالروم، وهم أوكرانيا، وهذا أيضاً لا يستقيم؛ لأن كليهما في الملة سواء، فالدولة الصغيرة إن التهمت الدولة الكبيرة، ساروا على مبادئهم، والدولة الكبيرة إن التهمت الدولة الصغيرة، ساروا على مبادئهم، فكلاهما في المبادئ والتوجه سواء، على أنّ بعضهم رجح الجانب الروسي، لاعتبارات أخرى، ككثرة المسلمين فيها، وعدم اعترافهم بالقدس عاصمة لإسرائيل، وعدم مشاركتهم في غزو العراق، ونحوها من الاعتبارات، التي قد يشبه فيها أوكرانيا بفارس، وروسيا بالروم، فتكون المسألة على هكذا فيها عدة آراء.
▪️الوقفة الثالثة:
بعد أن عرفنا أن روسيا وأوكرانيا في الملة سواء، فلا يصّح الاستدلال؛ بأن هؤلاء كفارس، وأولئك كالروم، وبعد أن عرفنا تعدي الدولتين على دول إسلامية، فليس لنا أن نتعاطف مع احدهما دون الأخرى، ولا سيما وقد دخل في الخط دول الاتحاد الأوربي، ماليا واقتصاديا ودعما عسكريا، مما يرجح عدم التعاطف مع قوى الشر.
ولنأت إلى الجانب الآخر من السياسة الشرعية، وهي النظر في تقاتل الأعداء فيما بينهم، فيضعف بعضهم بعضا، ويهلك بعضهم بعضا، دون تدخل المسلمين مع أحد الأطراف المتنازعة، وهذا من أحد صور السياسة الشرعية، ولهذا الباب دلالاته الشرعية، التي قلّ أن تذكر في النظر بين المتنازِعين، فالغالب يستدّل بحادثة فارس والروم طرداً في كل نازلة، ويقيس عليهما نظائرهما -في نظره-، ويُغفل الجانب السياسي الشرعي الآخر!
والجانب السياسي الشرعي الآخر، هو النظر إلى إهلاك الظالمين بعضهم ببعض دون التدخل بينهما، والدليل على ذلك:
قول الله تعالى {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أي: نسلط بعض الظلمة على بعض فيهلكهم ويذلهم، قال الفضيل بن عياض: (إذا رأيت ظالما ينتقم من ظالم فقف، وانظر فيه متعجبا) .
فهذه الآية تتحدث على فريقين ظالمين، اقتتلوا فيما بينهما، فكان من السياسة الشرعية، أن ننظر فيهما، ونحمد الله على العافية، ولا نعين ظالماً على ظالم، حتى تضعف قوتهم، ويستعيد المسلون عافيتهم.
روى ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن مالك بن دينار قال: قرأت في الزبور: «إني أنتقم بالمنافق من المنافق، ثم أنتقم من المنافقين جميعًا، وذلك في كتاب الله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام: 129]».
وروى أبو نُعيم في «الحلية» عن الزاهد العابد حَسَّان بن عطية، أنه قَالَ: « يعَذِّبُ اللهُ الظَّالِمَ بِالظَّالِمِ، ثُمَّ يُدْخِلُهُمَا النَّارَ جَمِيعًا».
وقال ابن كثير في «تاريخه» في أحداث سنة اثنتين وستين وستمائة قال: ” وفيها استحضر الملك هولاكو خان الزين الحافظى وهو سليمان بن عامر العقرباني المعروف بالزين الحافظي، وقال له قد ثبت عندي خيانتك، وقد كان هذا المغتر لما قدم التتار مع هولاكو دمشق وغيرها مالأ على المسلمين وآذاهم ودل على عوراتهم، حتى سلطهم الله عليه بأنواع العقوبات والمثلات وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا 6: 129 ومن أعان ظالما سلط عليه، فإن الله ينتقم من الظالم بالظالم ثم ينتقم من الظالمين جميعا، نسأل الله العافية من انتقامه وغضبه وعقابه وشر عباده. “.
وقال مؤرخ الإسلام الحافظ شمس الدين الذهبي – رحمه الله تعالى- عن أحداث سنة 582 هـ:
[خلاف الفِرنج]
وفيها وقع الخلاف بين الفِرنج -لعنهم الله- وتفرّقتْ كلمتهم، وكان في ذلك سعادة الإسلام.
▪️هذه هي الوقفة الصحيحة في النظر بين روسيا من جانب، وأوكرانيا والاتحاد الأوروبي من جانب آخر، النظر والتوقف، وعدم اصدار الفتاوى المؤيدة لأحد الطرفين، حتى يهلك الله ظالم بظالم .
إقرأ المزيد :