على الرغم من أننا نتحدث عن ثلاث محافظات سورية تمثل الخزان الغذائي والمائي لسورية بشكل كامل، إلا أنها تعاني بشكل مخيف من أزمة فقدان مادة الخبز، سواءً في مناطق سيطرة ميليشيات قسد أو في مناطق سيطرة ميليشيات الأسد، ما يدفعنا لطرح عدة تساؤلات مهمة:
أولاً: أين تذهب خيرات هذه المناطق التي يعتمد مئات الآلاف من سكانها على الزراعة وخاصة زراعة القمح، ولم ينقطعوا موسماً واحداً عن الزراعة كونها المصدر الرئيسي لمعيشتهم؟ فأين تذهب محاصيل القمح؟
ثانياً: هل تفكر كل من ميليشيات قسد والأسد بنفس الطريقة، “تجويع الشعب” ومحاربة الناس في لقمتهم ليخضعوا لهم ويسكتوا عن جرائمهم؟
والكثير من التساؤلات والاستفسارات الأخرى التي سيكون لها حيز كبير من هذا التقرير هو السياسة الجائرة التي تتبعها كل من قسد والأسد بحق السكان المدنيين شمال شرق سورية.
أزمة خبز في أكثر المحافظات السورية إنتاجاً للقمح!!!
تقدّر المساحات التي تم زراعتها بمادة القمح هذا الموسم بمليون و500 ألف هكتار، وقد كان من المتوقع أن يصل إنتاج القمح هذا العام إلى مليوني طن على الأقل، إلا أنّ إجمالي الإنتاج كان 1.2 مليون طن بحسب تقارير وزارة الزراعة في حكومة الأسد، ويثير هذا الرقم استغراب المتابعين، إذ من غير المعقول أن يكون الإنتاج متدنياً إلى هذا الحد، وسنتطرق إلى مسألة التزوير في الأرقام والإحصائيات غير الصحيحة التي تصدرها المؤسسات المعنية بالزراعة في حكومة الأسد في فقرة لاحقة من هذا التقرير.
وعلى كل حال فإنّ الحاجة السورية من القمح تصل إلى 3.5 مليون طن سنوياً، ومع ذلك لا توجد أي إجراءات جدية من قبل كل من قسد والأسد لإعادة إنعاش السلة الغذائية السورية.
هذا النقص الحاد جعل مخصصات الطحين للأفران في الرقة والحسكة ودير الزور تنخفض بشكل كبير، بما لا يغطي إلا 60% من احتياجات الناس للخبز.
كما أنّ توزيع مادة الخبز يخضع لتدقيق كبير ومخصصات قليلة لكل عائلة، بمقدار رغيفين لكل شخص في اليوم!! ما يرسم ملامح مجاعة حقيقية تنتظر المنطقة بكاملها.
وما زاد الأمر سوءاً هي الطوابير الطويلة أمام نوافذ الأفران بانتظار المخصصات القليلة من مادة الخبز، وما يرافق ذلك من استغلال للتجار، وعدم وجود تنظيم للطوابير، والنزاعات التي تحصل بين المدنيين، وكل ذلك على مرأى ومسمع السلطات الحاكمة والتي تعتبر المسؤولة عن هذا الوضع المزري
أين يذهب الخبز شمال شرق سورية؟
طبعاً لا يمكن تصديق التقارير الهزيلة التي تصدرها وزارة الزراعة في حكومة الأسد عن الإنتاج المنخفض للقمح، حيث أنّ الموسم كان جيداً في هذا العام بحسب متابعين محليين، ولكن تكمن المشكلة في سوء إدارة قسد والأسد لهذا الإنتاج، حيث أنّ:
- نسبة كبيرة من القمح تم بيعه لنظام الأسد، حتى القمح المزروع في مناطق سيطرة قسد تم فتح المجال بواسطة تجار موالين للأسد لشراء كميات كبيرة من المحاصيل وإيصالها إلى نظام الأسد.
- يسعى نظام الأسد في مناطق سيطرته إلى إظهار النقص الحاد في مادة الخبز، لاستمرار استيراد القمح الروسي، وإغراق البلاد بديون والتزامات تجاه قوات الاحتلال الروسي، وهذا جزء من الدور الوظيفي لنظام الأسد منذ تدخل الروس على الأراضي السورية
- مصادر محلية تتهم قسد ببيع كميات كبيرة هذا العام من القمح إلى الحكومة العراقية، مما أدى إلى نقصه في مناطق سيطرتها ما خلّف الأزمة التي يعاني منها السكان المحليون الآن
- يستثمر رجال أعمال مقربون من قسد في المخابز السياحية والتي تعتبر الملجأ الثاني لمن يملكون المال لشراء الخبز بدلاً من الاعتماد على الخبز العادي، وإن كان السياحي أغلى ثمناً، وهم يستفيدون من خلال وجود أزمة على الأفران بحيث يزداد بذلك الراغبون بالهروب من طوابير الأفران وشراء الخبز السياحي.
- في بعض الحالات تقوم قسد بخفض مخصصات الطحين لأفران بعض المناطق بسبب المظاهرات التي تخرج ضدها، وهذا ما فعلته مع عدة بلدات في الريف الغربي لمدينة دير الزور حيث خفضضت مخصصات الطحين لها بحوالي 30 – 40% بعد موجة احتجاجات شهدتها المنطقة.
- كما تجدر الإشارة إلى أنّ بعض المناطق التي تعتبر موالية للسلطات الحاكمة وتشكل حاضنة شعبية لها لا تعاني من أزمة الخبز، فمثلاً مدينتا كوباني والقامشلي ذاتا الأغلبية الكردية لم تشهدا أي أزمة خبز، في حين تغرق محافظات كاملة كالرقة ودير الزور، وكذلك مناطق واسعة من محافظة الحسكة بأزمة نقص حاد في الخبز
- وكذلك المناطق الخاضعة لسيطرة ميليشيات الأسد فإنّ المناطق التي لا يوجد فيها عشائر موالية للأسد أو لم يشارك أبناؤها في ميليشياته تشهد أزمة خبز، أما المناطق والقرى التي تشهد إقبالاً على التجنيد في صفوفه تحظى بنصيب وافر من الخبز ولا تعاني من أي أزمة تذكر، وخاصة القرى القريبة من مطار دير الزور، وبعض البلدات جنوب شرقي الرقة.
إذاً من الواضح أنّ هذه الأزمة مفتعلة ويمكن إيجاد الحلول لها إلا أنّ السلطات المتحكمة برقاب الناس ومعاشهم تعتبر فكرة “الجوع أو الركوع” من الأفكار المميزة للحكم وبسط النفوذ وقمع أي محاولات لمعارضتها من قبل السكان.
ماذا بعد أضرار الخبز على المنطقة؟
إنّ الأزمة الحاصلة شمال شرق سورية لا تعتبر أضرارها مقتصرة فقط على الجوع وطوابير الانتظار على الأفران، واستغلال التجار للأزمة ، بل يتجاوز ذلك إلى أ ضرار قد تهدد عدة قطاعات في المنطقة، وأهم هذه الأخطار:
- تهديد الأمن الغذائي بسبب عدم كفاية المخصصات الخاصة بالطحين لاحتياجات الناس من الخبز، وكذلك ازدياد أسعار الخبز والطحين مع استمرار تردي أسعار القمح
- إنّ أزمة الخبز تدفع الناس للهجرة خارج شمال شرق سورية، وخاصة فئة الشباب تقاطعاً مع عدة أزمات أخرى تشهدها البلاد، ما يعني تفريغ المنطقة من سكانها وكذلك إحداث نقص كبير في الطاقات الشبابية والأيدي العاملة
- عزوف الكثير من الفلاحين عن زراعة القمح بسبب ضعف مردوده، وهذا الأمر سيهدد بانخفاض إجمالي الإنتاج السنوي للقمح، وبالتالي زيادة أزمة الخبز، بالإضافة إلى ظهور أزمات في المواد التي تعتمد على القمح.
- إغراق سورية بمزيد من الديون والالتزامات تجاه روسيا بسبب استمرار استيراد القمح الروسي إلى سورية
- بالإضافة إلى ذلك إنّ الاستمرار بسياسة التجويع أو التركيع يعتبر مأساة حقيقية تهدد حقوق الشعب الاجتماعية والسياسية، وتجعله عاجزاً عن تقديم أدنى اعتراض على التجاوزات التي لا حصر لها المرتبكة من سلطات الأمر الواقع
أضرار سياسة الجوع أو الركوع
بعيداً عن الجانب الاقتصادي قليلاً فمن المؤسف أن الحال التي أفضت إليها منطقة شمال شرق سورية تعتبر من أسوأ الحالات على الإطلاق، حيث انعدم أي شكل من أشكال حرية التعبير أو الاحتجاجات السلمية، كما لا مجال لمحاربة الفساد، أو حتى الإشارة إليه.
وقد أمعنت السلطات القائمة هناك في إشغال الناس بأزمات مصطنعة ومفتعلة كأزمة الخبز وأزمات الوقود والتضخم وغيرها، لتجعل أكبر هموم المواطن هو تأمين لقمة الخبز في نهاية يومه.
فاليوم هذه المناطق لا تعيش أي تعددية سياسية وتعييش تمييزاً على الانتماء العرقي والديني والسياسي بالإضافة إلى إجراءات اضطهادية مختلفة، وبالمقابل لا مجال للاحتجاج أو الاعتراض، ولو حصل ذلك فالحل المباشر هو التجويع وإخضاع الناس بالقوة.
إنّ اعتماد سلطات الأمر الواقع على تجويع الشعب وتضييع خيراته ومقدراته، واستغلال جهده هي جريمة جديدة تضاف إلى إجمالي الجرائم التي ترتكبها كل من ميليشيات الأسد وقسد بحق المواطنين السوريين الخاضعين لسيطرتها في شمال شرق سورية، وحتى في جميع المحافظات السورية الأخرى، حيث أنّ هذه الأزمات لا تعتبر خاصة بمحافظة دون أخرى، إنما هي أزمة شاملة مع الأسف.
إقرأ أيضاً :